لكاتب الأستاذ عبدالرزاق الربيعي
عندما قال ابن قتيبة: «الشعر معدن شعر العرب، وسِفر حكمتها، ومستودع أيامها، والسور المضروب على مآثرها، والخندق المحجوز على مفاخرها، والشاهد العدل يوم النفار، والحجة القاطعة عند الخصام، ومن قيّدها بقوافي الشعر وأوثقها بأوزانه أخلدها على الدهر»، فإنه أكد على المكانة الرفيعة التي يحتلها الشعر لدى العرب، ويكفي أن العرب كانوا قبل الإسلام يعلقون أشهر القصائد على جدران الكعبة، ويقال إنها كانت تكتب بماء الذهب، هذه المكانة تراجعت، يقول ابن سلَّام: «فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارسٍ والرُّوم ولَهَتْ عن الشعر وروايته»، لهذا أثارت محاضرة د. هدى الزدجالية التي قدّمتها في النادي الثقافي، وكانت (قراءة في كتاب الشعر المسكتي العماني) للشاعر سعيد بن مسلم المجيزي، دهشتي، فالشعر استعاد مكانته العالية في عُمان، نظرا للمنزلة الرفيعة التي احتلّها الشاعر الذي عاصر ثلاثة من سلاطين الدولة البوسعيدية هم: (فيصل بن تركي، وتيمور بن فيصل، وسعيد بن تيمور) وكان مقربا من السلطان فيصل وصار كاتبا له وظلّ من المقرّبين من السلطان تيمور بن سعيد، ثم من بعده السلطان سعيد بن تيمور، كما أكدت الوثائق، وأوضحت الزدجالية أن كتاب (الشعر المسكتي العماني) أحد الدواوين الشعرية العُمانية الصادرة في القرن الرابع عشر الهجري منذ أن طُبِع لأول مرة عام 1937م بمدينة أوساكا باليابان، وليس هذا هو الأمر الغريب وحده، فرغم أنّ الشاعر سعيد بن مسلم المجيزي مدح السلاطين إلّا أنّه حين مدح السلطان سعيد بن تيمور وجمع القصائد في ديوان لكنّه لم ينشر بأمر من السلطان نفسه، رغم منزلته العالية لديه لدرجة، أنه كان يخاطبه «جناب المودّ العزيز الأحشم أبي الصوفي» وهذا يدل على عظيم مكانة كان يحتلها هذا الشاعر في البلاط السلطاني على مدى ثلاثة عهود متعاقبة، كما ذكرت الباحثة هدى مؤكدة: «وقد أتاحت له هذه المنزلة أن يعتمر العمامة السعيدية التي كانت ولا تزال رمزا للأسرة المالكة» بل أنه كان يقف خلف السلطان مباشرة في الصور التي عرضتها الباحثة في محاضرتها، مؤكّدة أنّ شعره يمثّل شاهدًا على أحداث تاريخية مهمة آنذاك، وهو ما دعا د. سمير هيكل للقول إن ذلك «جعل من ديوان شعره وثيقة أدبية وتاريخية، ومرآة تعكس الأحداث والقضايا التي شهدها ذلك العصر من تاريخ عمان» فبيت سليط الذي أشار إليه في ديوانه، على سبيل المثال، وهو من المعالم الأثرية في نزوى، لم يتبق منه اليوم سوى الأطلال، وكذلك وصفه دخول الهاتف إلى مسقط عام 1328 هـ وتشير الدكتورة هدى: القصيدة تحتاج إلى وقفة وتأمل كونها تؤرخ لحدث يعد مهما وقتها من حيث الأخذ بوسائل التكنولوجيا الحديثة» وهذه تذكّرنا بنصوص للشاعر العراقي معروف الرصافي الذي كان منبهرا بالمخترعات الجديدة، فلما ركب القطار من الاستانة سنة 1898 قال:
وقاطرة ترمي الفضا بدخانها
وتملأ صدر الأرض سيرها رعبا
تمشت بنا ليلا تجر وراءها
قطارا كصف الدوح تسحبه سحبا
بالإضافة إلى كونه لسان حال لما وصل إليه الشعر العُماني من رقي وإبداع، وكان السلطان تيمور يصطحب معه الشاعر في أسفاره، كما دلت الوثائق، وطبع السلطان تيمور كتابه (الشعر العماني المسكتي) نسبة إلى مسقط على نفقته وذكر في مقدمته بكل تواضع: «وقد ساعدتني ألطاف الله وتوفيقه على طباعة ديوانه هذا، وسميته (الشعر المسكتي العماني) وتسنى لي طبعه في المملكة اليابانية ببلدة أوساكا، بمطبعة دار الطباعة الإسلامية العربية»، وكانت النسخة الواحدة تباع بقرش ونصف قرش، ويبدو أن السلطان تيمور كانت له وجهة نظر في تبنيه طباعة الديوان، فهو يريد حث رجال الأعمال من الميسورين على المساهمة بطباعة دواوين شعراء عمان، لتصل تلك الدواوين إلى أيدي القراء، محذرا من عدم طباعة الكتب، فيموت الشاعر أو الأديب العماني ويموت شعره وذكره معا إلا من كانت معه نسخة من ديوان شعر أحدهم، فهو محافظ عليها بين أثوابه لا أحد يعلم بها إلا الله، والجرذان تأكلها، ويؤكد في مقدمته على هذا المسعى في موضع آخر، ناصحا الأدباء إلى تنبيه الأغنياء لطبع الدواوين، ففي شعر شعرائكم من البلاغة والأمثال ليس بأقل من غيرهم (إن من الشعر لحكمة).
قضايا كثيرة أثارتها الباحثة د.هدى في محاضرتها التي مزجت فيها بين التاريخ والأدب، وبذلت جهدا في تتبعها للديوان والشاعر، لتفتح الباب للباحثين لمواصلة ما بدأته، فشعر تلك المرحلة تستحق من الباحثين وقفات جادة.
جريدة عُمان
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/سلطان-الشعراء-وشاعر-السلاطين