التداخل السوسيولساني بين شمال عمان وجنوبها
“حفريات في التاريخ”
كتبت: شيخةالفجرية
منذ ما يزيد عن 1500 عام، كانت اللغات الحميرية والبطحرية والحرسوسية والشحرية واللحيانية من أبرز اللغات التي سادت الجزيرة العربية، وأغلب هذه اللغات ليس لها أبجدية أو قواميس أو آثار مكتوبة، سواء في الورق أو في الحجر، ولكنها ظلّت محفوظة في الصدور وتتناقلها الأجيال التي تنتمي إلى هذه اللغات.
وكان لعُمان نصيب وافر من هذه اللغات مثل البطحرية والحرسوسية والشحرية ويضاف إليها اللغة الكمزارية في شمال عُمان، ويضاف إلى كل ذلك ما جاء في دراسة رسالة الدكتوراة للباحث العماني الدكتور عامر عدلي الكثيري، الذي خصص بحثه في اللهجات واللغات العمانية، فخرج بنتيجة مفادها: بأن عُمان تمتلك 10 لغات وما يقارب 65 لهجة. واللغة العربية هي أسمى ما تحدث به اللسان العماني، فقد جاء في كتاب الإبانة للعوتبي؛ قال: ” قال خليد العصري: أتينا سلمان الفارسي ليقرئنا القرآن، فقال: إن القرآن عربي فاستقرئوا رجلاً عربياً، فقرأنا على زيد بن صوحان”، ومن لا يعرف زيد بن صوحان فهو من أهل عُمان، فقد جاء ذكره في كتاب الجاحظ مستعرضًا مشاهير أهل عُمان فقال:” ومن خطباء أهلها المذكورين المشهورين: صعصعة بن صوحان، وزيد، وأخوهما، خطباء مصاقع”، وهذا يعزز قوة اللسان العربي في عُمان، وما عداه فهي موروثات لغوية غدت معينًا للغة العربية، التي بدورها كانت كما ورد في مسند الإمام الربيع رحمه الله تعالى وغيره من كتب الحديث، التي تحكي لنا نزول القرآن على سبعة أحرف:
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ: “اقْرَأْ”، فَقَرَأَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “هَكَذَا أُنْزِلَتْ”، قَالَ عُمَرُ: فَقَالَ لِيَ: “اقْرَأْ”، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: “هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ”.
وعليه كانت لهجات أو لغة أهل عُمان ضمن هذه الأحرف كما ذهبت كتب بعض المفسرين والعلماء القدماء؛ مثل:
البحر المحيط لصاحبه أثير الدين الأندلسي، والطبري في تفسيره، والبغوي في تفسيره، وجَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ، وكذلك في تفسير العز بن عبد السلام، والثعالبي، ومحمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ)، وابن كثير في تفسيره، وقد أحصى السيوطي وحده في كتابه “الإتقان في علوم القرآن”، في جزئه الأول، وتحت باب: (فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز)؛ جملة من الكلمات بلغة عُمان.
كل ذلك يعطي إشارة عميقة لما تملكه عُمان عبر الزمان من مكامن لغوية هي الموروث العماني الوطني، التي أوجبت التداخل اللساني بين جميع أجزائها، من أجل ذلك؛ أقيمت جلسة نقاشية في قاعة المؤتمرات والمعارض في معرض مسقط الدولي للكتاب 2022، في قاعة ركن وزارة الثقافة والرياضة والشباب وبتنظيم من النادي الثقافي، بعنوان: التداخل السوسيولساني بين شمال عمان وجنوبها – حفريات في التاريخ، قدمها الدكتور عامر الكثيري؛ وأدارتها صفية أمبوسعيدي، تحدث الدكتور الكثيري عن أصل اللهجات العمانية فقال: “اللهجات العامية العمانية مثلها مثل بقية اللهجات العربية الأخرى يعدّ الحديث عن أصلها ضربا من الخطل، إذ لا يتفق الباحثون في اللهجات من حيث كونها أصلا للغة الفصحى أو العكس، ولكن ما ينبغي الحديث عنه وإبرازه أن عددا من هذه اللهجات العمانية جاءت مع هجرة مالك بن فهم إلى أرض عمان، وعددا آخر من هذه اللهجات تشكّل بفعل التواصل والاحتكاك بين عربية الشمال وعربية الجنوب التي لا يزال لها جيوب في ظفار والوسطى، كما أن بعض هذه اللهجات تكوّنت بفعل الهجرات الداخلية من مختلف المناطق في السلطنة عبر حقب زمنية بعيدة، ويمكن رصد ذلك من خلال بعض الرواسب اللغوية التي يمكن عدّها ضمن الإبداعات اللغوية المشتركة بين مختلف هذه اللهجات”. وأنَّ ” عملية توثيق اللهجات يجب أن تتم وفق آلية علمية صحيحة ودقيقة، ويتمّ ذلك بزيارات ميدانية استطلاعية إلى الحيز الجغرافي الذي تتوزّع فيه اللهجة، وتدوين الملاحظات؛ بغية وضع اللهجات المتشابهة في مجموعات كبيرة، ثم القيام بالتسجيلات الصوتية من أفواه الرواة في موضوعات شتى معدة سلفا، ويفضّل ألا تكون التسجيلات مطولة حتى تسهل عملية تفريغها لتتم بعد ذلك عملية الكتابة باتبّاع أساليب الكتابة الصوتية الدقيقة التي تعتمد الرموز العالمية، ولا ضير من استعمال الكتابة بالرمز العربي في مرحلة لاحقة”.
وعن كيفية الحفاظ على هذه اللهجات قال: ” أن تقوم فرق بحثية بجمع مدونات كثيرة من مختلف الرواة في مختلف مناطق السلطنة وتفريغها ثم كتابتها وفتح المجال للباحثين من سلطنة عمان ومن خارجها لدراسة هذه اللهجات وإبراز سماتها اللغوية في مختلف المستويات”.
ثم تحدث عن ارتباط اللهجات العمانية بلغات القبائل العربية، إذ ” تحتفظ اللهجات العمانية بخصائص لغوية كثيرة وردت في كتب التراث العربي، مثل ظواهر الكشكشة والشنشنة والكسكسة والعنعنة وظواهر الإبدال المتنوعة، ولا تكاد تقف عند ظاهرة من تلك الظواهر الموصوفة قديما إلا ولها حضور في اللهجات العمانية المعاصرة. ومعظم هذه الظواهر وردت منسوبة إلى قبائل عربية قديمة وهي موجودة عند كثير من القبائل العمانية التي لديها ارتباط مباشر بفعل الهجرات مع تلك القبائل العربية”،
وللدكتور عامر عدلي الكثيري بحث أكاديمي متخصص في اللهجات العمانية، قال عنه بأنه: “يعدّ هذا العمل الأول من نوعه؛ إذ قمت بتصنيف اللهجات واللغات العامية العمانية في جميع مناطق توزّعها في سلطنة عُمان من مسندم في أقصى الشمال إلى ظفار في أقصى الجنوب، وتطلب ذلك جهودا مضاعفة في الزيارات الميدانية وجمع المادة استغرقت أربع سنوات ابتداء من عام 2017، زرت فيها محافظات السلطنة كافة في مدنها وبلداتها وسواحلها وسهولها وجبالها وأوديتها وبواديها، وتم خلالها جمع المدونة وتسجيل المادة اللغوية من أفواه الرواة باتباع أسلوب المقابلة المباشرة مع الرواة، وتم جمع المادة اللغوية من 115 راويا من كبار السن من مختلف مناطق السلطنة، بالإضافة إلى تكوين شبكات من العلاقات مع عدد كبير من الشباب الذين تم الاستعانة بهم في شرح معاني بعض المفردات التي استغلق عليه فهمها.
واعتمدت الدراسة على مرتكزات أو معايير تحمل فوارق للتمييز بين اللهجات واللغات العامية، تمثّلت في: الجغرافيا والتقسيم الإداري والوحدات اللغوية والفنون الفلكلورية والأمثال، وتكلل ذلك الجهد برصد غير مسبوق لهذه اللهجات واللغات العامية، إذ رصدتْ الدراسة عشر لغات عامية في مختلف مناطق السلطنة، هي:
1 . اللغة العامية في محافظة مسندم.
2. اللغة العامية في ولايتي لوى وشناص.
3. اللغة العامية الحضرية في محافظة ظفار.
4. اللغة العامية البدوية في محافظة ظفار.
5. اللغة العامية البدوية في محافظة البريمي.
6. اللغة العامية البدوية في سواحل محافظة شمال الباطنة (باستثناء لوى وشناص).
7. اللغة العامية البدوية في سواحل محافظة جنوب الشرقية والمناطق السهلية القريبة منها في جنوب الشرقية وشمال الشرقية.
8. اللغة العامية البدوية لبدو الرمال (شبه الرحل ومن كانوا رحلا حتى وقت قريب، ويعتمد نشاطهم على رعي الإبل).
9. اللغة العامية الحضرية في المناطق الحضرية والجبلية في المحافظات الآتية: الداخلية وجنوب الباطنة وشمال الشرقية.
10. اللغة العامية الحضرية في محافظة الظاهرة والمناطق الجبلية المتصلة بها في شمال الباطنة”.
كل هذا يؤكد حاجة السلطنة الماسة لإقامة معهد أو مركز خاص لدراسة اللغات واللهجات العمانية، يبدأ بتسجيل الظواهر اللغوية كتابة وتصويرًا ثم تحليلها تحليلًا علميًا، ونشرها على مستوى واسع.
المراجع:
1ـ البيانوالتبيين 1: 161 ـ 163.
2ـ عبد الرّحمن الحاج صالح، النّظرية الخليلية الحديثة، ص ص92، 93.
3ـ محمود عكّاشة، التّحليل اللّغوي في ضوء علم الدّلالة، ص12.
4ـ